فصل: أعاصير العروض الوسطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أسرار القرآن في الآية الكريمة:

بقلم الدكتور: زغلول النجار.
قال حفظه الله:
هذا الوصف القرآني المعجز، الذي يقول فيه ربنا تبارك والله تعالى: {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق} ينطبق علي الأعاصير الرعدية العنيفة، وهي أعاصير حلزونية، دوارة، عنيفة الحركة والسرعة، ولذلك تعرف باسم الأعاصير الدوارة Cyclones وهي كتل من الهواء تدور حول منطقة من مناطق الضغط المنخفض في عكس اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي، وفي اتجاهها تماما في نصف الكرة الجنوبي، وتتحرك هذه الأعاصير بسرعات فائقة تزيد علي 73 ميلا في الساعة، وقد تصل الي 130 ميلا في الساعة أو إلى سرعات أعلي. ولذلك فهي أعاصير عنيفة، مدمرة، تصاحب غالبا بتلبد السماء بالغيوم الداكنة السميكة القريبة من سطح الأرض، والتي تحجب أشعة الشمس بالنهار، ونور القمر والنجوم بالليل، محدثة ظلمة قابضة.
وتصاحب هذه الظلمة بحدوث كل من ظاهرتي البرق والرعد، وهطول الأمطار بغزارة شديدة، وهذا ما تصفه الآية الكريمة بدقة علمية بالغة، علي الرغم من ورودها في مقام التشبيه.
ونظرا لانتشار هذه الأعاصير في المناطق المدارية، فقد سميت باسم الأعاصير المدارية الدوارة Tropical Cyclones وقد عرفت بأسماء أخري في كل منطقة من تلك المناطق المدارية، منها اسم هريكين Hurricane في الأمريكتين، واسم تيفون Typhoon في مناطق بحر الصين وهي لفظة صينية تعني الرياح الكبيرة، وإذا كانت محددة المساحة علي اليابسة فإنها تأخذ أشكالا قمعية ولذا تعرف باسم الدوامات الهوائية القمعية أو التورنادو Tornadoes وهي من أصغر تلك الأعاصير حجما وأكثرها تدميرا.
والأعاصير ليست مقصورة علي المناطق المدارية وإن سادت فيها، وذلك لأنها تحدث أيضا في مناطق العروض الوسطي، وهذه الأعاصير لم تعرف صفاتها، ولم يتم تصنيفها إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ووصفها بهذه الدقة العلمية البالغة من قبل اثني عشر قرنا علي الأقل، لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، ويشهد لهذا النبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته الي يوم الدين رغم أنف المارقين من الكفار والمشركين في كل عصر ومصر وفي كل حين!!

.الأعاصير المدارية:

تتكون الأعاصير المدارية بين خطي عرض 5 و20 درجة شمال وجنوب خط الاستواء، وتنشأ بدوران الهواء البارد حول مناطق الضغط المنخفض التي تتكون بالتسخين المحلي في بعض المناطق وبتوافر بقية الظروف اللازمة لتكون تلك الأعاصير ومن بينها هدوء الهواء وسكونه أو قلة تحركه، ويؤدي ذلك الي تسخين طبقة الهواء الملامسة لسطح الأرض سواء كان ذلك يابسة أو ماء فتتمدد الي أعلي ليحل محلها تيارات من الهواء البارد، مما يؤدي الي حدوث حالة من عدم الاستقرار في هواء المنطقة.
وكلما زاد عمق منطقة الضغط المنخفض، وزادت شدة انحدار جوانبها بزيادة الفرق بين ضغطها، والضغوط المحيطة بها، زاد الإعصار عنفا، فتدور حولها الرياح بسرعات فائقة تصل الي قرابة الثلاثمائة كيلومتر في الساعة، بينما يكون الهواء الساخن في مركزها ساكنا تقريبا.
وتتوافر ظروف تكون هذه الأعاصير بصفة خاصة في منطقة الركود الاستوائي، حيث تتقابل الرياح التجارية في نصفي الكرة الأرضية مندفعة باتجاه منطقة الضغط المنخفض وما بها من هواء ساخن يتجدد ويتصاعد الي أعلي باستمرار، ومنحرفة الي يمين اتجاهها في نصف الكرة الشمالي، والي يسار اتجاهها في نصفها الجنوبي، وذلك بسبب دوران الأرض حول محورها.
ولذلك تنشأ هذه الأعاصير بصفة خاصة فوق البحار الاستوائية والمدارية في فصلي الصيف والخريف، ويصل قطر الدوامة الواحدة منها الي خمسمائة كيلومتر، ويصل قطر مركزها الذي يسمي عين الإعصار الي أربعين كيلومترا، وتتراوح مدد مكث تلك الأعاصير بين عدد قليل من الأيام وأكثر من أسبوعين.
وتصاحب الأعاصير المدارية عادة بتكون السحب الداكنة الكثيفة والقريبة من سطح الأرض، وبسقوط الأمطار الغزيرة المصاحبة بظاهرتي البرق والرعد.
ومما يساعد علي استمرار ارتفاع الهواء الساخن في مناطق الركود الاستوائية، ارتفاع نسبة الاشعاع الشمسي مما يؤثر علي ارتفاع معدلات تبخر ماء البحار والمحيطات، وبالتالي الي ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء مما يعين علي تكوين السحب الكثيفة الداكنة بإذن الله وعلي هطول الأمطار الغزيرة، حيث يشاء، وكلها من العمليات التي تتسبب في رفع درجات الحرارة الكامنة في عين الإعصار، وفي استمرار تحرك الهواء الساخن الي أعلي، واندفاع الهواء البارد من المناطق المحيطة ليدور حوله أو يحل محله.
والأعاصير المدارية تتكون أساسا فوق البحار والمحيطات، وعندما تندفع في اتجاه اليابسة تفقد كثيرا من سرعتها باحتكاكها مع سطح الأرض، ولكنها تظل قادرة علي إحداث قدر هائل من الدمار من مثل هدم المباني والمنشآت، والخسائر في الأرواح والممتلكات، وحدوث السيول الجارفة، والفيضانات والأمواج المغرقة للسفن والمنشآت البحرية علي طول السواحل والي مسافات متباينة في عمق اليابسة.
وتكثر الأعاصير المدارية في كل من جزر الهند الغربية، وسواحل فلوريدا، وخليج المكسيك، وفي بحر الصين وسواحل الجزر اليابانية، وفي بقية جزر المحيط الهادي وفي شرقي استراليا، وفي خليج البنغال، وفي جنوب المحيط الهندي.

.الدوامات الهوائية القمعية الشكل:

تطلق كلمة تورنادو Tornado علي الدوامات الهوائية القمعية الشكل، وهي من الأعاصير المدارية الشديدة الأثر والتي تضرب الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية سنويا في مساحات صغيرة من الأرض قد لا يتعدي قطرها المائة متر، تدور فيها الرياح بسرعات مدمرة حول مركز الإعصار الذي ينخفض الضغط الجوي فيه بدرجة قياسية، وتصاحبه الأمطار الغزيرة المصحوبة بظاهرتي البرق والرعد في أشد صورهما.
وعند مرور هذه الدوامات الهوائية القمعية الشكل فوق ماء البحار والمحيطات، يرتفع سطح الماء الي أعلي علي هيئة مخروط يعرف باسم النافورات المائية، يقابله مخروط من السحب يتدلي نحو سطح البحرفيحدث ظلمة شبه كاملة، وتشكل هذه الظروف خطرا داهما يهدد السفن البحرية بالإغراق، وتحدث مثل هذه الدوامات الهوائية القمعية الشكل غالبا بعد الظهر في فصلي الربيع والصيف حين تبلغ درجات الحرارة نهاياتها العظمي وتستمر بضع ساعات.
وتتحرك هذه الدوامات الهوائية بسرعات كبيرة تصل الي 70 كيلومترا في الساعة، ولكن أثرها سرعان ما يتلاشي علي الرغم من قوتها التدميرية الكبيرة، المتمثلة في اقتلاع الأشجار وتحطيم المباني والمنشآت علي اليابسة، وفي إغراق السفن في عرض البحار.

.أعاصير العروض الوسطي:

تنشأ أعاصير العروض الوسطي بين خطي عرض 35 و65 درجة في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي، حيث تنشأ في النصف الشمالي من التقاء الرياح المدارية العكسية الغربية الدافئة الرطبة القادمة من الجنوب مع الرياح القطبية الباردة الجافة القادمة من الشمال، فتندفع الرياح الباردة تحت الدافئة، رافعة إياها الي أعلي ومكونة سطح انفصال بين الكتلتين الباردة والدافئة، يندفع فوقه الهواء الدافيء علي هيئة موجات تشكل كل واحدة منها النواة الأولي لإعصار منخفض، يأخذ في النمو التدريجي مكونا منطقة من الضغط المنخفض فوق سطح الانفصال، يندفع فيها الهواء البارد محاولا الوصول الي مركزها باتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي، ومعه في نصف الكرة الجنوبي، ويظل الإعصار نشيطا حتي يتم هيمنة الهواء البارد علي قلب الإعصار فيبدأ في التلاشي بالتدريج، وتصاحب أعاصير العروض الوسطي بتكون سحب رقيقة متفرقة علي ارتفاع كبير، تتزايد كثافة وسمكا وقربا من سطح الأرض بتزايد الإعصار شدة، حتي تتلبد السماء بالغيوم الداكنة الكثيفة فتحجب ضوء الشمس بالنهار، ونور القمر وأضواء النجوم بالليل، وعندئذ يبدأ هطول المطر بزخات خفيفة تتزايد بالتدريج مع حدوث البرق والرعد، حتي تنهمر الأمطار بغزارة في جو من البرودة الشديدة والاضطرابات الجوية العديدة، ثم يأخذ الجو في التحسن التدريجي بابتعاد مركز الاعصار ولكن تظل درجة الحرارة مائلة الي البرودة النسبية.
وتتفاوت أعاصير العروض الوسطي في أحجامها، وأعماق بؤرها، وفي شدة انحدار جوانبها، فمنها ما لا يزيد قطره علي (300) كيلومتر، ومنها ما يتجاوز ذلك (1500) كيلومتر، ومنها ما هو شديد العمق وما هو ضحل، ومنها ما هو شديد الانحدار، وما هو قليله.
وأثر هذه الأعاصير لا يقتصر علي حدود المنطقة التي تغطيها، ولكنه يمتد الي خارجها، ويتوقف ذلك علي عمق مركز الاعصار وعلي درجة انحدار جوانبه، أي: علي تباين كل من الضغط ودرجة الحرارة بين عين الإعصار وحوافه، والتي تتوقف عليها سرعة الرياح حول مركز الإعصار.
من هذا الاستعراض يتضح بجلاء أن الوصف القرآني للأعاصير كما جاء في هذا النص القرآني المعجز:
{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق} [البقرة: 19].
ينطبق انطباقا كاملا علي الحقائق التي توصلت إليها المعارف المكتسبة في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه، والتي لم يدرك علم الإنسان طرفا منها إلا مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي.
وورودها في كتاب الله الذي أنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنا بهذه الدقة العلمية الفائقة، والشمول الكامل، والإحاطة التامة لايمكن لعاقل أن يتصور له مصدرا غير الله الخالق تبارك وتعالى.
فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم، أنزله بعلمه، علي خاتم أنبيائه ورسله، وصلى الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم، والرسول الخاتم، الذي تلقي هذا الوحي الخاتم، فبلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين، فنسأل الله تعالى أن يجزيه خير ما جازي به نبيا عن أمته، ورسولا علي حسن تبليغ رسالته، والحمد لله أولا وأخيرا علي حفظ القرآن العظيم، هذا الكتاب الكريم، بنفس لغة الوحي اللغة العربية، في صفائه الرباني، وإشراقاته النورانية، فجاء معجزا في كل أمر من أموره، وفي كل آية من آياته، وكلمة وحرف من كلماته وحروفه، ولو جاء ذلك في مقام ضرب المثل أو التشبيه، حتي يبقي هذا الكتاب الخالد حجة علي الناس كافة الي قيام الساعة لا ينكره إلا جاحد، ولا يتركه وراء ظهره إلا شقي. اهـ.

.تفسير الآية رقم (20):

قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}:

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{يكاد البرق} أي من قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه {يخطف أبصارهم} فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل: ماذا يصنعون عند ذلك؟ فقال: {كلما} وعبر بها دون إذا دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي عند الإضاءة {أضاء لهم مشوا فيه} مبادرين إلى ذلك حراصًا عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفًا عليهم ووقوفًا مع الأسباب ووثوقًا بها واعتمادًا عليها وغفلة عن رب الأرباب، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقًا لآرائهم، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوته قوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا} أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم بصائر بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام بل حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه.
{ولو شاء الله} الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم، ودل على مفعول شاء بقوله: {لذهب بسمعهم} أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم {وأبصارهم} بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {على كل شيء} أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبوية يقع على كل ما أخبر عنه، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال، وقول الأشاعرة: إن المعدوم ليس بشيء، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان متميز فيها {قدير} إعلامًا بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب، قال الحرالي: القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر انتهى.
ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني، أو لأنه مثل المنافقين، جعلت مدة صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقادًا مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ. لأن الضلال فيه أشنع وأفظع.
فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهرًا، والظلمات متشابهه، والصواعق وعيده، والبرق وعده، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفًا {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4] وكلما بشروا انقادوا رجاء، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيرًا وجفاء وكل ذلك وقوفًا مع الدنيا وانقطاعًا إليها، لا نفوذ لهم إلى ما وراءها أصلًا، بل هم كالأنعام، لا نظر لهم ألى ما سوى الجزيئات والأمور المشاهدات، {فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم} [النساء: 141] {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًاعظيمًا} [النساء: 73] والكلام الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد، وفي الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع بأصحاب الصيب لا بمثلهم؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولًا الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقًا أو تقديرًا إلى ظلمات الكفر، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن استوى وجودهما وعدمهما، فصار عادمًا للثلاثة، فكان من هذه الجهة مساويًا للأصم الأبكم الأعمى، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي، فهو حينئذ مثل البهائم التي لا تقاد للمراد إلا بقائد، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى: {كمثل الذي ينعق} [البقرة: 171] ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم إلى آخره و{أو} بمعنى الواو، ولعله عبر بها دونها لأنه وإن كان كل من المثلين صالحًا لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد، لأن الأول أظهر في الأول والثاني في الثاني.
وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال: ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم، فضرب لهم المثل الأول، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا لما رأوا من معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقًا ولا يتحملها إلا من أمن، ولما يلزم منه من فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين. انتهى.
وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لاسيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما اختص به القرآن من حيث كان منهيًا إلى الحمد ومفصحًا به فكان حرف الحمد، وذلك أنه حرف عام محيط شامل لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملًا لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه عروة المفتاح: هذا الحرف لإحاطته أنزل وترًا وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض من المغيبات بضرب مثل من المشهودات، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلًا لما هو دونه في الظهور، وكلما ظهر ممثول صار مثلًا لما هو أخفى منه، فكان لذلك أمثالًا عددًا منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالًا لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم، فتكون تلك الغاية مثلًا أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي فيما يعلم {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} [الروم: 27] {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} [غافر: 7] وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد {وله الحمد في السماوات والأرض} [الروم: 18] وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم، كان خُلقه القرآن {لقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه {ضرب لكم مثلًا من أنفسكم} [الروم: 28] ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلًا {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها} [البقرة: 26] {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا} [العنكبوت: 41] وللمثل حكم من ممثوله، إن كان حسنًا حسنَ مثله، وإن كان سيئًا ساء مثله؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق، وهو أدنى مثل أمثال حسنة وسيئة {مثل الجنة التي وعد المتقون} [الرعد: 35] الآيتين، {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها} [الجمعة: 5] {فمثله كمثل الكلب} [الأعراف: 176] الآيتين.
وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف، {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان، فمن يسر له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علمًا وعملًا فقد أتم ووفّى، وبذلك يكون القارئ من القراء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم أعز من الكبريت الأحمر» {يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [آل عمران: 74].
ثم قال فيما به يحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن قراءة الأحرف الستة تمامًا وفاء بتفصيل العبادة، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعًا ودوامًا {وله الدين واصبًا} [النحل: 52] و{الذين هم على صلاتهم دائمون} [المعارج: 23] فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف السته التفصيلية، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامه المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى: {وله المثل الأعلى} [الروم: 27] وأن تفاصيل ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة؛ ولجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله، وعنه كمل الدين بالإحسان، وصفا العلم بالإيقان، وشوهد في الوقت الحاضر، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو لكل شيء بداء وختام انتهى. اهـ.